فوائد إعرابية في أحاديث نبوية 1 | أبو رفيدة الحنبلي | 2016-12-03 | لتحميل البحث أو المقالة إضغط هنا |
فوائدُ إعرابيَّة في أحاديثَ نبويَّة (1)
أبو رفيدة الحنبليُّ
بسم الله والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
فإنَّ علم الحديثِ رفيعُ القدْر، عظيمُ
الفخر، شريف الذِّكرِ، لا يعتني به إلَّا كلُّ حِبْرٍ، ولا يُحرَمُه إلَّا كلُّ
غُمْرٍ، ولا تفنى محاسِنُه على ممرِّ الدَّهر، وهو من أفضلِ القُرَبِ إلى ربِّ
العالَمين، وكيف لا يكونُ وهو بيانُ طريق خير الخلقِ وأكرم الأوَّلين والآخرين[1]،
وإنَّ كلامَه- صلَّى اللهُ عليه وسلَّم- هو الكلام الذي قلَّ عددُ حروفِه، وكثُرَ
عددُ معانيه، وجَلَّ عن الصَّنعةِ، ونُزِّه عن التكلُّف، وكان كما قال اللهُ تبارك
وتعالى: قلُ يا مُحمَّد: {وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ}... وهو الكلامُ الذي
ألقى الله عليه المحبَّة، وغشَّاه بالقَبولِ، وجمع له بين المهابةِ والحلاوة، وبين
حُسن الإفهام، وقِلَّة عدد الكلام، مع استغنائه عن إعادته، وقِلَّة حاجة السامع إلى
معاودته.لم تسقُط له كَلِمة، ولا زلَّت به قَدَم، ولا بارت له حُجَّة، ولم يَقُم له
خَصمٌ، ولا أفحَمَه خطيب، بل يبُذُّ الخُطَبَ الطِّوالَ بالكلام القِصار، ولا
يلتمِسُ إسكاتَ الخصْم إلا بما يعرفُه الخَصم، ولا يحتَجُّ إلَّا بالصِّدقِ[2]،
ولَما كانت معرفةُ اللغةِ والإعراب أصلًا لمعرفةِ الحديث؛
لورود الشَّريعةِ المطهَّرة بلسان العرب؛ فقد رأيت أن أتناولَ بالبحثِ أحاديثَ خفيَ
إعرابُها، وفُتحَ بابُ النقاشِ فيها مع إخوةٍ أفاضِلَ؛ لِما في ذلك من فوائِدَ،
خصوصًا أنَّ العُلماءَ لم يُكثِروا-فيما نعلَمُ- من التصنيفِ في إعرابِ الحديث
النبويِّ الشريف، مع كونِها مُختصَرةً لا تروي الغليلَ، ولا تشفي العليلَ[3]،
وجعلتُ هذه الفوائدَ في سلسلةٍ تحت عنوان: ((فوائِدُ إعرابيَّة في أحاديثَ
نبويَّة)) رأيتُ نَشرَها تعميمًا للنَّفعِ، ورغبةً في الأجرِ، ومُطارحةً للعِلم،
وكذلك لِما فيها من فائدةٍ في كيفيَّة مُقارنة الرِّوايات والوصولِ إلى الإعرابِ
الصحيحِ الذي هو فرعُ المعنى، حتى وإن لم يَذكُر ذلك الشرَّاح أو لم يتعَرَّضوا له.
واللهَ أسألُ التوفيقَّ والسدادَ في القولِ والعمَلِ.
وأوَّلُ هذه السلسلةِ المباركة بإذنِ الله تعالى: حديث
أخرَجه مُسلِمٌ في صحيحِه عن عائشةَ
رضِيَ اللهُ عنها، قالتْ: عبِثَ[4]
رسولُ اللهِ صلَّى الله عليه وسلَّم في منامِه، فقلنا: يا رسولَ اللهِ، صنعتَ شيئًا
في منامِك لم تَكُن تَفعلُه؟ فقال: ((العجَبُ إنَّ ناسًا من أمَّتي يؤمُّونَ
بالبيتِ برجلٍ من قُريش قد لجأ بالبيت، حتى إذا كانوا بالبيداءِ خُسِف بهم...))
فهل الصوابُ في همزة (إنَّ) في قولِه:
((العجَبُ إنَّ ناسًا)) الكسرُ أم الفتح، وما علامةُ الترقيمِ المناسبة حينئذٍ؟
الجواب:
الوجهانِ جائزانِ صحيحانِ، لكن الذي أراه- والله أعلم- أنَّ الأقوى فيه كسرُ همزة
(إنَّ) فقال: ((العجبُ! إنَّ ناسًا مِن أمتي يؤمُّونَ بالبيت...)). وتكون (العجب):
مبتدأً لخبر محذوف تقديرُه: العجبُ ما رأيتُه، أو نحوُ ذلك، ثم استأنف- صلَّى الله
عليه وسلَّم- الكلامَ، فقال: إنَّ ناسًا.
ويدلُّ على ذلك: أن الحديثَ ورد بلفظينِ آخرينِ هما:
1- بينما رسولُ الله صلى الله عليه وسلم نائمٌ، إذ ضَحِك في منامه، ثمَّ استيقظَ،
فقلتُ: يا رسولَ الله، ممَّ ضَحِكتَ؟ قال: ((إنَّ أناسًا مِن أمَّتي
يؤمُّونَ هذا البيتَ لرجلٍ من قُريشٍ))[5]
2- عَبِثَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلَّم في منامه، فقلنا: يا رسولَ الله، لقد
صنعتَ شيئًا ما كنتَ تصنعُه! قال: ((العجبُ! ناسٌ من أمَّتي يؤمُّون البيتَ
لرجلٍ من قريشٍ قد لجأ به))[6]
- فحَذْفُ (العجبِ) في الحديثِ الأول، و(إنَّ) في الحديثِ الثاني؛ يقوِّي عدمَ
تعلُّقِ (إنَّ) بـ (العجَب)- في
لفظ مسلم- وأنَّها استئنافُ كلامٍ جديدٍ، ومعلومٌ أنَّ همزة (إنَّ) حالَ الاستئنافِ
تكون مكسورةً كما لا يخفى.
- وفتحُ الهمزةِ في (إنَّ) يتأتى على
تعلُّقِ (أنَّ ناسًا) بـ (العجَبُ) وتعلُّقُه من وجهين؛ الأول: أن يكونَ على
تقدير (مِن) الجارَّة، أي: العجبُ مِن أنَّ. الثاني: أن يكون (العجبُ)
مبتدأً، والمصدر المؤول (أنَّ ناسًا) خبرًا، أي: العجبُ
أَمُّ ناسٍ من أمَّتي البيتَ.
والله أعلم، وصلَّى الله وسلَّم وبارك على سيِّدنا محمَّد وعلى آله وصحبِه أجمعين.
يُتبَع بإذن الله تعالى.
[1]
ينظر: ((تدريب الراوي في شرح تقريب النواوي))
للسيوطي(1/ 23)
[2]
ينظر: ((البيان والتبيين)) للجاحظ (2/ 13)
[3]
كما قال الإمام السيوطي في ((عقود الزبرجد على مسند
الإمام أحمد)) (63 - 64/ 176): (فقد أكثر العلماء قديمًا وحديثًا من
التصنيف في إعراب القرآن، ولم يتعرضوا للتصنيف في إعراب الحديث سوى إمامين:
أحدُهما الإمام أبو البقاء العُكبَري، فإنه لَمَّا ألَّف إعراب القرآن
المشهور أردفه بتأليفٍ لطيف في إعراب الحديث، أورد فيه أحاديثَ كثيرة من
مُسند أحمد وأعربَها، إلَّا أنه لاختصاره، ونزرةِ ما أورده فيه من النَّزر
القليل، لا يروي الغليل، ولا يشفي العليل). والثاني الإمام جمال الدين بن
مالك، فإنه ألّف في ذلك تأليفاً خاصاً بصحيح البخاري، يسمى "التوضيح
لمشكلات الجامع الصحيح"...).
[4]
هو بكسرِ الباء، قيل: معناه اضطرب بجِسمِه. وقيل: حَرَّك أطرافَه كمن يأخذُ
شيئًا أو يدفَعُه. ينظر:
((شرح النووي))
[5]
ينظر: ((مسند أحمد)) (41/ 258)
[6]
ينظر: ((تاريخ ابن أبي خيثمة)) (2/ 814) |